الفقيه العلامة سيدي الحاج العربي العزاوي، علمنا أن خدمة الناس شرف، وأن الثبات على المبدأ أجمل من كل أوسمة الدنيا..

الفقيه العلامة سيدي الحاج العربي العزاوي، علمنا أن خدمة الناس شرف، وأن الثبات على المبدأ أجمل من كل أوسمة الدنيا..

بقلم |  محمد الشيخ بلا

حين أقف اليوم في هذا المقام التكريمي المبارك، وأمام هذا الجمع المهيب والكريم، لا أقف بصفتي مسؤولا فقط أو متحدثا باسم ساكنة هذا الإقليم، أو باسم المجلس الإقليمي لتيزنيت، بل أقف كذلك كواحد من أبناء هذه المدينة، وكواحد من أبناء وتلامذة شيخنا الجليل، الذين كان لنا شرف التتلمذ على يديه، وشرف النهل من علمه قبل أن ننهل من أخلاقه وتوجيهاته.

لقد ربطتني بالفقيه العلامة سيدي “الحاج العربي العزاوي” وشائج أعمق من جوار البيوت والمساجد، وأسمى من علاقة أستاذ بتلامذته، فهي صلة فتحت أمامنا دروبا سرنا فيها بثقة وطمأنينة، وعرفتنا بملامح رجل أودع الله في صدره نورا لا ينطفئ، وصدقا لا يتبدّل، وتواضعا يسبق كل فضائله، فيملأ القلب مهابة والروح سكينة.

كنت صغيرا أنا وإخوتي، لم نعرف من الدنيا سوى دروب الحي ومسجد أيت محمد، لكن الشيخ الفاضل كان من الأوائل الذين دلونا على طريق القرآن الكريم.. علمنا الحروف الأولى بصبر، وعلمنا الأخلاق بصمت، كما علمنا أن خدمة الناس شرف، وأن الثبات على المبدأ أجمل من كل أوسمة الدنيا، وكنا نراه يمشي بيننا هادئا كمن يحمل سرا كبيرا، وحين كبرنا أدركنا أن ذلك السر، هو سر “الإخلاص” الذي كان يزرعه فينا من غير أن ينطق به.

اليوم، وأنا أراه بينكم، وأراه يكرم أمام الناس، وأمام هذه الوجوه الطيبة المباركة، تعود إلي صورة ذلك اليوم الذي كنا نقف فيه بين يدي شيخنا الفاضل، نرتجف خشية زلّة أو خطأ، ثم ما نلبث أن نهدأ ويمتلئ قلبنا بالأمن والأمان حين تلتقي أعيننا بنظرة الرضا التي تنساب من عينيه كطمأنينة تهدئ الروع قبل الخطى.

سيدي الحاج العربي العزاوي… لم نأت اليوم لنكرم سيرتك المكتوبة على الورق، بل جئنا لنكرس جميلكم في أعناقنا.

جئنا لنقول لكم.. إنكم ما زلتم في قلوبنا إلى اليوم، تماما كما كنتم في أيام الطفولة: مربيا، مرشدا، موجها، ووجها من وجوه البركة في هذه المدينة.

وإن كنا اليوم نتحدث في منابر ومحافل مختلفة، فإن الفضل الأول – بعد الله سبحانه وتعالى – يعود لهذا الرجل الذي علمنا أن نقرأ، وأن نفكك رموز الكلمات، ثم علمنا كيف نكون، وكما ورد في الأثر، من علمني حرفا صرت له عبدا.

أيها الحضور الكريم

إن تكريم الفقيه العلامة سيدي الحاج العربي العزاوي، يمثل اعترافا بجهود جيل كامل من العلماء والفقهاء والصلحاء، الذين اضطلعوا بأمانة التوجيه والتعليم الشرعي في ظل الثوابت الدينية والوطنية الراسخة، وما تكريم سيدي “الحاج العربي” إلا تكريم لتلك المدرسة المغربية السوسية الأصيلة التي جعلت من العالم قدوة، ومن الفقيه ركنا من أركان السكينة الروحية في المجتمع.

ولعل أجمل ما يمنحه لنا هذا اللقاء، هو أنه يعيدنا إلى تلك القيم التي نخشى عليها اليوم من ضجيج العصر.. قيمة الوفاء لمن علم، وقيمة الامتنان لمن ربّى، وقيمة الاعتراف لمن غرس بذورا ما كنا لنجني ثمارها لولا العناية والإخلاص.

ولعلّ ما يميز شيخنا الجليل، سيدي الحاج العربي العزاوي، أنّ حب الناس له لم يكن وليد اليوم، ولا وليد منصب ولا صفة اجتماعية، بل كان ثمرة تلك الهيبة الهادئة التي لا تُصطنع، والوقار الذي لا يُنتزع.

هيبةٌ يشهد لها كل من عاصره من أجيال مختلفة، من أقراننا وآبائنا وأجدادنا، فمن جلس إليه في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي يروي عنه بقدر ما يروي عنه تلامذة اليوم، وكأن الزمن يعبر من أمامه دون أن ينتقص من مكانته أو من ذلك الاحترام الفطري الذي يستقر في القلوب قبل الكلمات.

وقد كان حفظه الله، كان إذا دخل مجلسا عمّه السكون، ليس خوفاً، بل تقديراً لرجل جمع بين العلم والسكينة، وبين الحضور الأخلاقي وعمق التجربة.

وقد تناقلت الأجيال – ومنها الجيل الذي أنتمي إليه- هذا الاحترام كما تتناقل الأسر إرثاً عزيزاً لا يسمحون للوقت أن يُبهته، فها هم آباؤنا يحدّثون أبناءهم عن أصالة الشيخ، وها هم أبناؤنا اليوم يرونه في أعيننا قبل أن يعرفوه بأسمائهم.. لم يحتج شيخنا إلى أن يرفع صوته ليُسمع، ولا إلى أن يذكّر بفضله ليُعرف، فقد كانت هيبته أبلغ من الخُطب، ومهابته كافية ليحملها الصغير عن الكبير دون وصية.

وهذا ما يجعل تكريمه اليوم، حدثاً مفصليا لا عابراً، بل صدى لاحترام صنعه هو بنفسه، عبر سنوات من الثبات والعطاء، حتى صار قدوة تتجاوز الزمن، ورمزا تتسع له ذاكرة الإقليم والوطن.

فهنيئا لكم شيخنا بهذا الحب وبهذا التكريم وبهذا العطاء الأخاذ، وهنيئاً لتيزنيت بكم، وهنيئاً لكل من مرّ بين أيديكم وتشرب من نور علمكم وصفاء سيرتكم، فقد كنتم على الدوام سندا لكل هذه الشرائح والأجيال، زرعتم الطمأنينة في نفوسهم، وتركتم أثراً لا يمحوه الزمن، فلكم منا كل الدعاء، ولكم من هذا الإقليم كل الامتنان، وما هذا الاحتفاء إلا قليل من كثيرٍ تستحقونه، وشاهد على محبة ستظل ـ بإذن الله ـ ممتدة ما دامت في القلوب حياة، وما دام في الذاكرة رجال يخلدهم إخلاصهم قبل أسمائهم ومسمياتهم.. وشكرا لجمعية النور لرعاية المدرسة العتيقة لمسجد أيت محمد، ولقدماء طلبة المدرسة العتيقة أيت محمد، ولكل من حضر وحضر ونظم هذا الاحتفاء المهيب، تقبل الله منا ومنكم.

محمد الشيخ بلا

خلال تكريم العلامة سيدي الحاج العربي العزاوي

الأربعاء 10 دجنبر 2025

مقالات ذات صله

خارج الحدود