آخـــر الأخبــــــار

الناقد حسن إمامي في ورقة تقديمية لرواية “من خشب و طين” لمحمد الأشعري

ورقة تقديمية لرواية من خشب وطين

(لـ : محمد الأشعري)

الورقة من اعداد الناقد حسن إمامي

 

الرواية صادرة عن منشورات المتوسط ـ إيطاليا في طبعتها الأولى سنة 2021، وكان تصميم الغلاف والإخراج الفني من إنجاز الناصري.

الكاتب: محمد الأشعري/ من مواليد زرهون سنة 1951. شاعر وروائي كما أنه مثقف وإعلامي ورجل سياسية مارس غمارها واختبر مؤسساتها واشتغل داخل اتحاد كتاب المغرب فترأسه لمدة ثم بعدها أصبح وزيرا للثقافة والاتصال  لولايتين بين سنة 1998 وسنة 2007.

من إصداراته الشعرية:  صهيل الخيل الجريحة 1978. / عينان بسعة الحلم 1981. / يومية النار والسفر 1983. / سيرة المطر 1988. / مائيات، 1994.ثم  «سرير لعزلة السنبلة» (1998)، و«حكايات صخرية» (2000)، و«قصائد نائية» (2006)، و«أجنحة بيضاء… في قدميها» (2007)، و«يباب لا يقتل أحداً» (2011)، و«كتاب الشظايا» (2012)، و«جمرة قرب عُش الكلمات» (2017)؛ كما صدرت له منتخبات شعرية في 2020.نُشرت له مجموعة قصصية بعنوان يوم صعب.لكن الاهتمام الأكبر والتحول المستمر في إبداعه وكتاباته انصب على جنس الرواية التي صدر له منها:

1/جنوب الروح 19962/ القوس والفراشة 20103/ علبة الأسماء 20154/ ثلاث ليال 20175/ من خشب وطين 20216/ العين القديمة 2019.

وقد ( تقاسمت روايته “القوس والفراشة” و”طوق الحمام” للسعودية رجاء عالم جائزة البوكر العربية للرواية لعام 2011. وهذه هي المرة الأولى منذ إطلاق البوكر عام 2008 التي تفوز فيها كاتبة بالجائزة، والمرة الأولى التي يفوز بها أحد كتاب المغرب).

كما أعلن «بيت الشعر» في المغربعن فوزهبـ«جائزةالأركانة العالمية للشعر» لعام 2020، في دورتها الـ15.
جاء في بيان لـ«بيت الشعر» أن منح الجائزة للشاعر المغربي جاء لعدة اعتبارات، في مقدمتها أن قصيدته أسهمَت، مُنذ أكثر من أربعة عقود، في «ترسيخ الكتابة بوصفها مقاومة تروم توسيعَ أحياز الحرية في اللغة وفي الحياة، عبر ممارسة شعرية اتخذَت من الحُرية أفقاً ومدارَ انشغال».

في التفاعل مع الإبداع الروائي عند محمد الأشعري:

أستحضر تفاعلي مع إبداعات الكاتب محمد الأشعري داخل القراءات المستمرة التي واكبت عمله الإعلامي وحضوره الأدبي في محطات متفرقة. ربما كان لوقع شعره وسحر جمالياته ولغته التي يتفرد بها وموسيقاه التي يعزف بها على الحروف كما على المعاني، وقع كبير في تطور ذوقنا الجمالي وحبنا للشعر الحديث وللمغربي منه على الخصوص. خصوصا وقد كنا كجيل جاء متفاعلا مع جيل السيد محمد الأشعري والذي بنى مغربا حداثيا جديدا داخل ظروف ما اصطلح عليه بسنوات الرصاص وعلى شط جمر  تختنق فيه الحريات فلا تكاد تجد لها متنفسا إلا وعين الرقابة كما عصا الجلاد حاضرة في الردع وإغلاق فتحات النور التي يمكنها أن تنير لعموم شعب طريق حرية وكرامة وحقوق بدل طريق تبعية إذلال واستغلال. وقد يبدو الخطاب في صيغته هنا سياسيا، ما يدل على أن الظروف السياسية أثرت كثيرا في وعي أجيال ما بعد خروج المستعمر، وفي محاولة تغيير إيجابي لما يحقق استقلالا وكرامة حقيقيين للشعب المغربي. ارتبطت القضايا الوطنية مع قضايا قومية وأممية، وكانت الرهانات التي قادها مناضلون كبار تركوا بصمتهم وتأثيرهم في الوعي والسلوك.

هكذا باختصار نرى جيل السيد محمد الأشعري والذي لن ندخل في تفاصيل أكثر حول تجربته وتفاعله حتى نترك لعالم الرواية والإبداع حظ فتح الفرصة لهذه المهمة وتبيان جماليات تجليها وتمظهرها واستقبال المتلقي لها.

وأستحضر كذلك في تفاعل مع العالم الروائي للكاتب السيد محمد الأشعري أنني قرأت أربع روايات من إبداعه، ما يعني أن هذا لا يكفي لكي تكون الصورة جامعة حول تجربته في الكتابة وملاحظة جوانبها المتميزة بأكملها. قد يسعفني في ذلك درجات الاطلاع على القراءات النقدية التي تمت حولها، وعلى الحوارات التي أُنجِزت مع الكاتب لكي أكمل الفراغات التي قد تحدثها عمليات عدم الاطلاع على باقي المنجز من روايات السيد محمد الأشعري. فقراءة رواية القوس والفراشة تحتاج إلى الاطلاع وإلى قراءة رواية جنوب الروح والتي تعتبر الجزء الأول المكتمِل بالجزء الثاني القوس والفراشة. ولا يعني هذا أن العنوان الأخير المذكور غير قادر على تحقيق المتعة والكفاية والانجذاب. ذلك أنها الرواية التي نالت جائزة البوكر مناصفة واستطاعت أن تنقل الكاتب من سحر الشعر إلى غواية الكتابة السردية بامتياز المحترف والمتخصص والمتفرغ لها. كانت متعة القراءة مرافِقة لسفر بين مدينة مكناس ومدينة مراكش وعوالم جبالها وثقافاتها. وكان القطار هو ذلك المتن الحديدي الذي ركبت صهوته وامتطيت قياس زمنه في اختراق صفحات الرواية ذهاب وإيابا. ولا ننسى أن رواية القوس والفراشة تحضر فيها مراكش في منعرجات السرد لكي تنير طريق القارئ إلى ما يطفئ عطشه ويخمد فضوله في مجموعة من القضايا التي تناولتها إلى جانب القضايا والشخصيات الرئيسية التي جعلتها محور الكتابة والانكتاب.

وتأتي قراءتي لرواية علبة الأسماء بقدر ثقافي وتفاعلي، طُلِب مني أن أساعد باحثا في موضوع تجليات السخرية في رواية علبة الأسماء. ربما قدَر جبل زرهون ومدينة مولاي إدريس زرهون والدرب الذي تشاركته مع أسرة سي محمد الأشعري والصداقات التي تجايلت بين أفرادها، ربما كل هذا كان له دور في إقدامي على البحث في موضوع السخرية وفي قراءة مواكِبة مع رواية علبة الأسماء. اجتهدت في ما اجتهدت فيه، واستفدت أكثر من خلال ما قرأته داخلها ومعها من دراسات نقدية وأكاديمية حول السخرية والأدب…

الرواية الثالثة التي اقتحمت عوالمها كانت هي رواية ثلاث ليال، وكنت قد وجدتها بين رفوف مكتبة منزلنا بمدينة مولاي إدريس زرهون في زيارة خاطفة لها، فاقتنصت وقرأت واستمتعت. وقد يكون المقتنَص ألذ من المشترى خصوصا إذا كان كتابا. قد نسأل هنا من يستعير كتابا فيقرؤه ثم لا يعيده لصاحبه أو صاحبته – لذة أخرى تنضاف مع الممنوعات ربما-. استهوتني الرواية بقوة تناولها لموضوع كبير في التاريخ الراهن للمجتمع المغربي ولثقافته القروسطية الممتدة في عصرنا الحالي، ولأشكال التخلف التي نجترها داخل عقلياتنا وكيف واكبت مرحلة الاستعمار وخدمت قضاياه وتعايشت محافظة على تاريخية وجودها. أتذكر لقاء خاصا بتجربة الشاعر والروائي محمد الأشعري خصّتْه بها كلية الآداب بمكناس. وقد كانت مناسبة لمتابعة تجربته من خلال قراءاته ومن خلال الدراسات والشهادات التي تناولتها. حينذاك جعلت عنوانا جامعا لتغطية اللقاء ومرفوقا بقراءة حول رواية ثلاث ليال، عنونته ب: الكتابة على خط جمر.

وها نحن الآن مع الرواية الرابعة في سجل مقروئي للسيد محمد الأشعري، إنها رواية “من خشب وطين”.

حقيقة، حينما طُلِب مني أن أكون مشاركا في اللقاء البهيج بمدينة الحاجب وفي فضاء دار الثقافة، وضّحت على أن ما يمكنني أن أقوم به هو إنجاز ورقة تقديمية للرواية والروائي. ذلك أن القراءة النقدية أعتبرها أكبر وأقوى وتحتاج إلى امتلاك مناهج وأدواتها والاشتغال بتأن مطلوب في سبر أغوارها وإعادة تفكيكها وتركيبها. دون أن ننسى أن القراءة أو الدراسة النقدية بحث أكاديمي يحتاج إلى قراءات متعددة للنص الواحد ولفصوله وفقراته. عمل أركيولوجي معرفي وأدبي بإحكام كبير. وقد ازددت اقتناعا بجسامة المهمة حينما أردت أن أقتني الرواية لكي أقرأها قبل موعد اللقاء فتعذر عليّ أن أجدها بمكتبات مكناس، كما حالت ظروف دون إمكانية بعض الأصدقاء الإسراع في إحضارها أو بعثها، إلى أن وصلتني قبل أسبوع أو أقل من هذا اللقاء الذي يشرفنا حصوركم فيه.

في انتظار وصول الرواية من خشب وطين قمت ببحث عبر شبكة الأنترنيت حولها فوجدت قراءات نقدية قيّمة لكل من الكاتب والباحث شرف الدين مجدولين، والباحث لحسن أوزين، إلى جانب بعض التعليقات حولها. حقيقة استفدت منها الكثير، لكنني كنت كمن يناقش حقيقة الماء دون أن يكون قد سبح فيه ولو لمرة. هكذا حينما حصلت على النسخة انكببت على قراءتها وكتابة تعليقات في جوانب صفحاتها واستحضار مرجعيات الدراسات التي اطلعت عليها كما تفاعلي الذاتي الذي سيجعلني أحد ضيوف ورواد هذا البيت الغابوي من خشب وطين، هذه الرواية التي قد تستعصي على قارئها في كل ادعاء بأنه ألمّ بجميع رسائلها وصورها الجمالية ومواضيعها التي اشتغلت عليها.

حقيقة يصعب ادعاء الإلمام لأنني من خلال القراءة الأولى لها اكشتفت جوانب لم تتطرق لها الدراسات التي اطلعت عليها. ليس تقصيرا طبعا، ولكن حصر جميع الجوانب يبدو أمرا مستعصيا في دراسات في صفحات معدودة لا تتجاوز عدد أصابع اليدين. ولا ننسى أننا في حضرة شاعر. في حضرة سياسي خبر عوالم الحياة وتدبير الأمور. لا ننسى أننا في حضرة مثقف عايش تاريخ المغرب الراهن وشكّل حوله من خلال تجربته وقراءته العديد من الرؤى والتصورات لحاضره ومستقبله. وهنا سيكون الروائي هو ذلك الطبيب الذي يشخّص ويشرّح ويقوم بعمليات جراحية كاشفا الأورام وفاضحا أشكال الخلل والعلل ومبديا طرق العلاج ربما.

يحضرني تقديم الشاعر والناقد صلاح بوسريفلحوار أجراه مع الروائي والشاعر محمد الأشعري جاء فيه:

( لعل القارىء مطالَب بالبحث عن ماء الشعر في روايات الأشعري، أو عن السياق الجمالي الذي يجعل من الحدث ذريعة، لإعادة كتابة الوقائع، أو الأحداث، بلسان الشاعر، الذي يحبك السرد، أو يغزله، وليس بنفس طريقة الروائي، الذي يتبع خيوط «المعنى»، وينسى أن في لغة الحكي غواية، الشاعرُ وحده من يستطيع استدراجها، حتى وهو يكتب الرواية لا الشعر).نشر الحوار سنة 2014  في جريدة الاتحاد الاشتراكي وقد تم ضمن ملتقى الثقافات والفنون.

داخل عوالم الرواية: من خشب وطين:

تقربنا لوحة الغلاف من سبل اقتحام عملِيٍّ لعوالم الرواية: قنفذ كبير ضخم، وآخر صغير بجانبه. شجرة غابوية وزهرة فريدة بتلابيبها وغرابتها وفرادتها. ولا ننسى دراجة صغيرة يركبها فارس مغوار برمحه ينظر لنفس اتجاه طريق القنفذين. قد يكون ذلك الممتطي للدراجة دون كيشوط عصره الذي سيحارب طواحينه الخاصة. ولن تكون الطواحين واقعية وحقيقية بقدر ما ستكون رمزا لشيء آخر يشبهها وظيفة ويلتقي معها تشبيها ومجازا. ولعل سحر الاستمرار في قراءة لوحة الغلاف يستدعي منا عدم الاستمرار لكي يبقى التشويق مرافقا للقارئ المفترَض الجديد والمتلقي المنتظَر. وكم من مقبِلٍ على قراءة عمل يقول لك: لا تحكي لي  التفاصيل، دعني أعيش شوقها وروعة ولذة اكتشافها. وكل اكتشاف هو تجربة وقراءة جديدة غير التي قام بها آخرون.

حين قراءة الرواية نعثر على أجزاء عنوانها أو كليته في صفحات عدة منها. وحين البحث عن سر الكتابة للرواية داخل متن “من خشب وطين” فإننا نجد قول السارد: ورأى سليمان وهو في الباحة منكبّا على دفتره الكبير في غيّه ما يزال، يعتبر كتابة رواية شيطانية نزهة آمنة. ص 347. وفي ص 262: أما أم كلثوم التي تطل من حين لآخر على ما يسجله، فإنها مقتنعة بأن الأمر يتعلق برواية تمزج بين التسجيل والتخيل والتأمل، وأنها في طريقها أن تكون شاهدة على العصر… سيرد على زوجته دائما بأن الأهم في الرواية ليس نية الرواية، بل تمرّدها على النوايا كلها.

فهل لنا أن نجعل السارد نائبج عن قصدية الكاتب في تبيان رسالة الكتابة الروائية ووظيفتها هنا في رواية من خشب وطين؟ طبعا يبقى اجتزاء الفقرات لا يغني عن سياقها الذي يعتبر أساسيا في فهمها وتأويلها بشكل أنسب. ولكن هل يمكننا الحديث عن فلتات انكتاب مثلما نتحدث عن فلتات اللسان؟ خصوصا وأن عملية اللاشعور في مرافقة الكتابة الإبداعية تستطيع أن تطفو بشكل جمالي رائع وبرمزيات متعددة وغنية.

تتمفصل الرواية إلى ثلاثة فصول وهي كالآتي:

1/ خروج الدابة، من ص 5 إلى ص 122.

2/  ورّني وحشك ألغابة، من ص 123 إلى ص 274.

3/ محنة الشجرة من ص 275 إلى ص 356.

آثر الكاتب أن يوقع نهايتها بتاريخ الانتهاء من كتابتها لكي يجعلها تكتسب شخصيتها المستقلة عنه: 6 مارس 2020. مع تنويه لبعض الوثائق والمطبوعات التي استفاد منها في ص 357.

ولنا الآن أن نقوم برحلة مع هذه العناوين الثلاثة لكي نجعل مفاتيح أولية يستأنس بها كل متفاعل مع الرواية:

1/ خروج الدابة: يعتبر اختيار العنوان هنا انتقاء ثقافيا وتاريخيا مرتبطا بالثقافة الدينية Théo culturel . فكيف نقارن بين العبارة التاريخية المشهورة والتي تدل على علامات الساعة أو على الناقة التي خرجت تسعى، مع الدابة والتي نجعلها بين مزدوجتين لتدل على كل من وما يدب في الأرض. مرة على الإنسان وخروجه من الاجتماع وحياة المدينة وثقافتها الاستهلاكية والمتصنعة، ومرة على الحيوان حيث خروج “ينسي” باختيار للعيش في المدينة كما شاءت له أقدار الإنقاذ والإعجاب والتفاعل المتبادل بينه وبين الإنسان. وهو ما يمكننا تلمسه بين ثلاث شخصيات تفاعلت الأحداث معها: إبراهيم ـ بريجيت ـ والقنفذ الذي سيسمى بالأمازيغية ينسي.

في حين أن استعمال عبارة خروج الدابة نجده في الفصل الثاني، ص 197: أسئلة كثيرة تناقلها الناس وهم يخرجون بأعداد تضاهي عدد القنافذ، للتفرّج على هذه العلامة من علامات الساعة. بعضهم يؤكد أنها خرجت من البحر، وبعضهم يعلن أنها خرجت من المواسير، ومن أنفاق مهجورة، لم يكن يعلم بها أحد. وأحد الفقهاء جاء إلى نشرة الأخبار الزوالية في القناة الأولى، وأكّد أن هذا هو “خروج الدابة” المذكور في القرآن…

2/ ورّني وحشك ألغابة: عنوان يجمع بين جمالية كتابته وصورته الشعرية كما يجمع الحمولة الشعبية التي تجعله مشهورا داخل أغنية شعبية مغربية.

يسجل هذا العنوان كلمة الوحش وتوحش، فتكون الدلالة بين أضداد في المعنى المراد، بين وجود الوحوش في الغابة والخوف منها، وبين الاشتياق الذي تخلقه الغربة والعزلة والبعد عن الآخر. على أن الغابة لها دلالات إيحائية في الاستعمال الدارجي المغربي. هكذا يصبح العنوان قويا في وظيفته مع المتن الحكائي ومناسبا لكي يفتح أشرعة خيال سيحلق معها القارئ والمتلقي.

وفي نفس الفصل نجد استحضار عبارة من أغنية شعبية أخرى، (منين أنا ومنين أنت). كان ذلك في حديث عن الأصل الذي ستشتغل عليه الروائية كقضية وإشكالية تاريخية وثقافية، اجتماعية ونفسية، لها وقعها ودورها في تشكيل الواقع وفي حفر خنادقه وتناقضاته وأشكال تفاوتاته واستغلاله…

أما الغابة فهي البديل الذي لجأ إليه إبراهيم بعد أن قرر التخلص من المدينة وثقافتها والعيش المجتمعي المألوف. رهان محوري كان هو محرك المتن والحكي والسرد المتحكم في متغيراته. رهان قابل بين المدينة والغابة، مثلما يقابل أحدهم بين البحيرة والمدينة، فيجعل المفارقات وأشكال الخلاص والتخلص التي تحتاجها الذات لكي تتحرر. فهل كان شخص إبراهيم يبحث عن تحرر وخلاص؟ ستصبح الغابة مثل نفسية الإنسان ونفسية إبراهيم، صامتة ومبطنة أسرار التاريخ والمجتمع والإنسان. وستدفعه لكي يعيش جدليات جديدة بسببها وحولها. كما سيتم فضح أشكال استغلال وتدمير وقتل وإجلاء وتاريخ مرير عانته القبائل في ارتباطها بالغابة وعلاقتها بها.

ستتخذ الغابة استقلالية لشخصيتها داخل الحكي لكي ترافع عن وجودها ومعاناتها. وسيتناوب الكل في النطق والحديث باسمها، بدءا بالشيخ عبدالله، مرورا بالدراسات التي اطلع عليها إبراهيم، وهكذا. جاء على لسان سليمان ص131: وهو يرفع بالطين النيء صرح هذه الحياة، ويملأ كيانه بوحشية ذئب، يحل بأرض جديدة، يشتهيها ويخاف منها، وعليه أن يستوعب بأسرع ما يستطيع قوانين هذا المجال الشاسع الذي تقال أشياء كثيرة عن مساحاته المفقودة، ولكنه ما إن يستفرد بك حتى يتعملق عليك، ويستدرجك إلى المتاهات التي ستأكلك…

ـ من حقك أن تجزع على البنتين، لا خوف من الضواري، فقد انقرضت، ولكن الخوف من أن تكبر الغابة، فلا تستطيعان العودة إلى نقطة البداية.

فقال سليمان لنفسه: كلنا تكبر علينا الغابة… كما تكبر علينا الحكايات، فلا نعرف كيف بدأناها، ولا كيف سننهيها.

في ص 191 وما تلاها حديث عن الغابة وعن دورها الشاعري والعلاجي على لسان بريجيت وإبراهيم والشيخ عبدالله.

3/  محنة الشجرة: تنتقل الرواية في فصلها الثالث للحديث عن وضعية الاعتقال السري والتعسفي الذي خضع له إبراهيم، الشخصية الرئيسية في الرواية ـ وإن كان الاحتمال أن تكون للشخصيتين حضور متلازم داخل بنية تركيبها البنائي: إبراهيم وسليمان، لكون علاقة الصداقة بينهما علاقة تجايل وتكامل وتقاسم للقضايا والمواقف. وكأن الكاتب يوزع الأدوار لكي يتم تركيب قضية إشكالية كبرى تتجاوز اختلافاتهما الفردية. وذلك ما سنلاحظه في ظهورهما وحديثهما واختلافهما وتوافقهما واتخاذهما لقرارات تحولية تعطي الشرعية لحرية كل واحد والحق في الاختيار. وأحيانا كمالنا يكون بالآخر ودونه تيه في ضلال طريق.

أما عنوان هذا الفصل فهو تراجيديا مركبة بتناقضات التاريخ والواقع والثقافة والاجتماع. هناك حديث عن شجرة النسب والأنساب، وتعطش الجل كظاهرة سوسيو ثقافية جديدة لنيل شجرة هرمية ونسب مقدس، وحضور هذا التسلق منذ قرون عدة يجعل المثقف الذي هو إبراهيم أو سليمان، يندهشان لهذه القداسة المعطاة لأمر وجودي طبيعي ووهمي في التقدير والتقديس. قد يتم اللوم على المستغِلّ وعلى المستغَل. كلاهما يساهمان في هذه اللعبة التي يستفيد منها أصحاب ريع التاريخ والغابة والأرض والسياسة وغنائمها.

سيكون اعتقال إبراهيم فرصة رمزية لجعل الإشكالية المطروحة داخل قفص اتهام يخضع فيه لسين وجيم، لتحقيق وتغييب عن دائرة الغابة كما عن دائرة المدينة. لا ننسى أن مكان الحجز يفصله عن حي صديقه سليمان وهو حي الفتح، الطريق السيار بين الرباط والدار البيضاء. سليمان هذا الذي سيتحرك بمعية زوجته أم كلثوم للبحث في القضية من زاويتها القانونية والقضائية، ولتدويل القضية كما للنظر في قضيته المرتبطة بالنسب الشريف وقضية الانتقام والثأر لابن مقتول وحب مجهض وأم جُنّت وكبرياء شريف لم يرض بالواقع فقفز عليه بتهميشه وترك إشرافا بعيد على مصالحه كما على سليمان وحضانته…

وكأن الكاتب يعيدنا إلى مناقشة حدود الحريات ونسبيتها، واستمرار الاعتقالات مع تجديد وتفنّنٍ في تلبيس الملفات المفبركة والراقية في التهمة بالمتهمين كأن تدين المتهم في قضية بملفات جنسية طالما كانت ثقافة عيش يومي وفردي ومؤسساتي تتداخل فيها لقمة العيش والاقتصاد والضرورة. ونستحضر مع الكاتب في توازٍ مع العنوان ومع هذا الاستنتاج الأولي القولة المشهورة في بلادنا: اطلع تاكل من الكرمة (الشجرة عموما) اهبط أو انزل، من قال لك ذلك؟!

هناك عبارة تقربنا من الكاتب كذلك، وهي قول سليمان في ص 294: ـ السلطة لا تحب الانقلابات الشعرية.

وقد نسأل الكاتب بالمناسبة عن مدى فعلية هذه الانقلابات وحضورها والهول الذي تحدثه للآخر كيفما كان سلطة أو ما شابهها؟

وكم هو جميل أن تكون رسالة الرواية رسالة فلسفية ووجودية يريد صاحبها أن يتقاسم طرحها مع المتلقي، أن تكون عالمية وإنسانية تستوعبها وتتذوقها جميع اللغات والثقافات. يقول الكاتب على لسان إبراهيم في فصل بعنوان: كما لو تكون رسالة إلى بريجيت:

كانت وجهتي هي التحرر من الروابط المتينة التي تجبرك على اليقين، وعلى الإقامة في وهم المخطط المحكم.. كانت وجهتي هي الانفراد بنفسي، بشكوكي وبِحَيْرتي، بحاجتي إلى الروابط الهشة، تلك التي تسمح لك أن تنتقل في الحياة بين الأشخاص والأمكنة بدون حروب مدمرة، بدون خسارات ولا غنائم. ص 315.

وقد نسأل المتلقي حول مدى قدرته في التجاوب مع هذه الفلسفة وتبنيها. وهذه مقاربة ثقافية في التفاعل مع المتن الروائي “من خشب وطين”.

لاشك أن مداخل العناوين كعتبات ومدخل الغلاف، قد أعطانا كل هذا خطوطا عريضة وزوايا منضافة نقترب من خلالها للنص الروائي. لكن كل قراءة ستكون مجددة لما سبق ومضيفة لما انفلت باعتبار أن الإبداع نص عميق بدرجات عمق محيط من المحيطات، وليس كل غوص يشبهه ما سبقه أو ما يليه، ولو كان الغواص نفسه في كل مرة.

أمكننا كعاشقين للقراءة أن نسجل بعض الإشكاليات المطروحة في رواية من خشب وطين. نذكر منها مع إمكانية التفصيل وإعطاء نماذج تطبيقية تتمحور داخلها:

ـ إشكالية العلاقة بين الطبيعة والثقافة.

ـ أشكال القيود ودرجات التحرر.

ـ المدينة كامتداد سوسيو ثقافي وعمراني والغابة كامتداد موحش وغريب عن التمدن والحياة المدنية.

ـ حضور المفارقات الساخرة، وهي التي جعلت أسلوب الرواية قويا في توظيفها واستحضارها على لسان جل الشخصيات المشتركة في كرنفال الحكي وإخراجه الدرامي. سخرية بجميع أشكالها كسلاح في مواجهة ما قد يصدمنا به الواقع والوجود والمعيش…

ـ حضور العجائبي والغرائبي. إن الرواية استعانت بتقنيات جديدة في استعمال الغرائبي والعجيب في الحكي والتخيل. جمعت بين اللمسة الهيتشكوكية التي صنعت سيناريوهات محكمة تدرجت في جدليات النص وتطور أحداثه. كما استحضرت اللمسة الكافكاوية في إبداع خلاق لعمليات تحول تنقل الإنسان من حال آدمي إلى حال حيواني. تصوير شرنقة كأنها طقس تعبدي طبيعي يلجأ إليه الإنسان لكي ينجو من جحيم البدائل المنغصة التي يفرضها عليه الواقع والسلطة والرقابة والمتحكمين في الرقاب باسم المقدس وباسم التاريخ الأعمى والأصم الذي لا يفهمه إلى مستغّلُّه. هكذا نجد النهاية السوريالية في أن يصير الإنسان قنفذا وحيوانا لكي ينجو من الشبكات العنكبوتية التي نسجها التاريخ والمدينة والسياسة وما جاورها بين العدوتين. ص356.

ـ التوظيف الرمزي المكثف في السرد والحكي. و لا ننسى أننا في حضرة شاعر سجل متنه الشعري قوة الدلالات والحضور وجمالية التفرد والإشعاع على الصعيد الداخلي والخارجي. يكون ذلك بالرمزية التي سلاحها المجاز والصور البلاغية التشبيهية، والساخرة من الألم ومن الخوف ومن الحرمان ومن الموت ومن كل ما يمكنه أن يجعلنا مستسلمين لقدر سلبي يسلب منا الحياة وحبها والحق في التصرف فيها بإرادتنا.

ـ الواقعي والتخييلي. وهنا يحضر الواقع المتخيل كما الخيال الواقعي. يحضر ما يشبه الواقع وما هو محض تخيل يقع في الغرائبية السالفة الذكر.

ـ الذاتي والموضوعي. فكل شخصية تفاعلت داخل هذه الإشكالية وكان لها دور وحظ في الحكي والتعبير وإسماع صوتها. أما الدرجات الأخرى لها فهي التي نرفعها لكي نسائل الكاتب محمد الأشعري عن مدى حضور الذاتي في الموضوعي والمحكي داخل الرواية سواء في واقعيِّها أو متخيَّلِها.

ـ الآمال والخيبات. ثنائية استفدتها من قراءة نقدية قام بها الأستاذ رشيد بنحدولرواية سعيد بنسعيد العلوي. ورفقة هذه الثنائية رحلة استكشافية ومغامرة بين العواصف التي ينذر بها الحكي داخل رواية من خشب وطين، تساعدنا على مزيد فضول وتطهير للذات من أجل القدرة على الاستمرار في تفكيك نسيجها وفك خيوطها وإعادة تركيبها. أكيد أننا لن نسلم من التوتر في قراءة الرواية حتى نصل إلى نهايتها وآخر سطر فيها. حينها لنا أن نركب بأجنحتنا بُراق الخيال لكي نتصور تطورات جديدة معها.

ـ التاريخ المجتر في الرواية. تاريخ الغابة، تاريخ السلطة، تاريخ القبائل، تاريخ الذات وجذورها وهويتها، تاريخ السياسة الاستعمارية، تاريخ السياسة الراهنة في التعامل مع الغابة ومع المجتمع…

ـ الأسئلة الوجودية والفلسفية. فالرواية لم تكن مجرد عرض فانطازمي مثير من أجل الفرجة والاندهاش. هي رواية الطرح الفسلفي وإعادة مراجعة الثوابت والمقروء والقناعات ووظائفها في حياة عقل الإنسان أو حضارته. يحضر هيدجر كما ميشيل صير كما الفكر الكوموني الشيوعي والحنين إلى جنة فوق الأرض…

ـ التحليل السيكولوجي والسريري للنفسيات والحالات والوضعيات، وهو ما يؤكد أن الإبداع الأدبي والروائي مدخل كبير لتحليل وفهم عمق النفسيات وتشريحها وفك متناقضاتها وخيوط طفولتها وعقدها وإعادة انصهارها وتركيبها بشكل سوي نسبيا يساعدها على أن تبقى منسجمة ومستمرة داخل المتن الحكائي والروائي على الأقل…

هذه بعض الزوايا والنقط التي توصلتْ إليها هذه القراءة الأولية لرواية من خشب وطين. أكيد أنها لا تغنينا عن قراءة النص والتلذذ بسحر هارمونيته وجمالية تركيبه وأسلوبه الشاعري. متن نشعر من خلال الرحلة في يمّه بحضور صوت الشاعر الذي حوّل أشرعته ومجاديفه وسفينته لخوض ملحمة الكتابة الروائية متسلحا بجيش قصيدته اللامنتهية في البناء والتي لن تُكتب بداياتها إلا مع اكتمال منتظَر في رواية أخرى يتجدد معها السفر.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *